فصل: تفسير الآيات رقم (1- 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


الجزء الرابع

سورة يس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏يس ‏(‏1‏)‏ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏3‏)‏ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏4‏)‏ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏5‏)‏ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ‏(‏6‏)‏ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يس * والقرءان الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ قد تقدَّم الكلام في الحروف المقَطَّعة، ويختص هذا الموضعُ بأَقوالٍ، منها‏:‏ أن ابن جبير قََالَ‏:‏ يس اسم من أسماء محمد عليه السلام وقال ابن عباس‏:‏ معناه‏:‏ يا إنسانُ، بالحبشية‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ هو بلغة طَيِّئ، وقال قتادةُ‏:‏ «يسا» قسم و«الصراط» الطريق، والمعنى‏:‏ إنك على طريق هدى بيِّن ومَهْيَعٍ رشاد، واختَلَفَ المفسرون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ‏}‏ فقال عِكْرِمَةُ‏:‏ «ما» بمعنى‏:‏ الذي، والتقدير‏:‏ الشيءُ الذي أُنذِر آباؤهم من النارِ والعذابِ، ويحتملُ أن تكون «ما» مصدريةً على هذا القول، ويكونُ الآباءُ هُمُ الأَقْدَمُونَ على مر الدهرِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ‏}‏ مع هذا التأويل بمعنى‏:‏ فإِنّهم، دخلتِ الفاءُ لِقَطْع الجملة من الجملة، وقال قتادةُ‏:‏ «ما» نافيةٌ، فالآباءُ عَلى هَذا هم الأقْرَبُونَ مِنْهُمْ، وهذه الآيةُ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 44‏]‏ وهذه النِّذَارةُ المنفيةُ‏:‏ هي نذارة المبَاشَرَة، كما قدَّمَنا، و‏{‏حَقَّ القول‏}‏، معناه‏:‏ وَجَبَ العذابُ وسبَقَ القضَاءُ بهِ، وهذا فيِمَنْ لم يؤمنْ من قريشٍ كَمَنْ قُتِل بِبَدْرٍ، وغيرِهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا‏}‏ الآية‏.‏

قال مكي‏:‏ قيل‏:‏ هي حقيقةٌ في الآخِرَة إذا دخلوا النار‏.‏

وقال ابن عباس وغيره‏:‏ الآيةُ استعارةٌ لِحالِ الكَفَرَةِ الذين أرادوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسوءٍ، فجعلَ اللَّهُ هذهِ مثَلاً لَهُمْ في كَفِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُ ومَنْعِهم مِنْ إذَايَتِهِ حينَ بَيَّتُوهُ‏.‏

وقالتْ فرقة‏:‏ الآيةُ مُسْتَعَارَةُ المعانِي مِنْ مَنْعِ اللَّه تعالى إيَّاهم مِنَ الإيمَانِ، وَحَوْلِه بَيْنَهم وبَيْنَه، وهذا أرجح الأقوال، و«الغُلُّ»‏:‏ ما أحاط بالعُنق على معنى التَّثْقِيفِ والتَّضْيِيقِ والتَّعْذِيبِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَهِىَ‏}‏ يحتملُ أنْ تَعُودَ على الأغلالِ، أي‏:‏ هي عريضة تبلَغُ بحرفِها الأذقَانَ، والذَّقَنُ‏:‏ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، فَيَضْطَرُّ المغلولُ إلى رفع وجههِ نحو السماء، وذلك هو الإقْمَاحُ، وهو نحوُ الإقْنَاعِ في الهيئة‏.‏

قال قتادة‏:‏ المقمح‏:‏ الرافعُ رأسه، ويحتملُ‏:‏ وهو قول الطبري أنْ تَعُودَ ‏(‏هي‏)‏ على الأيْدِي؛ وذلك أن الغُلَّ إنما يكونُ في العُنُقِ مَعَ اليَدَيْنِ، ورُوِي أن في مصحف ابن مسعودٍ وأُبيِّ «إنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ» وفي بعضها «في أَيْدِيهِمْ»، وأرَى الناسَ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ الإقْمَاحَ فَجَعَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ لَحْيَيْهِ وأَلْصَقَهُمَا وَرَفَعَ رَأْسَهُ، وقرأ الجمهورُ‏:‏ «سُدَّا» بِضَمِّ السينِ في الموضعين، وقرأ حمزةُ والكسائي وغيرُهما ‏(‏سَدَّا‏)‏ بفتح السين، فقيل‏:‏ هما بمعنًى، أي‏:‏ حائلاً يَسُدُّ طَريقَهم، وقال عكرمةُ‏:‏ مَا كَانَ مِمَّا يَفْعَلُه البَشرُ فهو بالضَّمِّ، وما كان خِلْقَةً فهو بالفَتْحِ، ومعنى الآية‏:‏ أن طريقَ الهُدَى سُدَّ دُونَهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ‏(‏11‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، «إنما» ليست للحَصر هنا؛ بل هيَ على جِهة تخصيصِ مَنْ ينفعُه الإنذارُ، «واتباعُ الذكر» هو العملُ بما في كتابِ اللَّه والاقتداءُ به‏.‏ قال قتادة‏:‏ الذكر‏:‏ القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏، أي‏:‏ بالخَلَواتِ عِنْد مَغِيبِ الإنسانِ عَنْ أعينِ البشَرِ‏.‏ ثم أخبر تعالى بإحيائهِ المَوْتَى ردًّا على الكَفَرةِ، ثم توعَّدَهم بذِكْرِ كُتُبِ الآثار وإحصاءِ كلِّ شَيْءٍ، وكُلِّ مَا يَصْنعهُ الإنسانُ فَيَدْخُلُ فِيما قَدَّمَ، ويَدْخَلُ فِي آثاره، لكنه سبحانه؛ ذكرَ الأمْرَ من الجهتَينِ؛ وليُنَبِّهَ على الآثارِ التي تَبْقَى، وتُذْكَرُ بَعْدَ الإنسانِ من خَيْرٍ وشرٍ‏.‏

وقال جابر بن عبد اللَّه وأبُو سعيد‏:‏ إن هذه الآيةَ نَزَلت في بني سَلَمَةَ؛ على ما تقدم، وقولُ النبي عليه السلام لَهُمْ‏:‏ ‏"‏ دِيارُكُم تكْتبُ آثاركم ‏"‏ والإمامُ المبينُ‏:‏ قال قتادة وابن زيد‏:‏ هو اللَّوحُ المحْفُوظُ، وقالت فرقة‏:‏ أراد صُحُفَ الأعمالِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 27‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ‏(‏15‏)‏ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏18‏)‏ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏20‏)‏ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏22‏)‏ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ‏(‏23‏)‏ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ‏(‏25‏)‏ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لَهُم مَّثَلاً أصحاب القرية‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، رُوِي عَنْ ابن عباس والزهري وعكرمة‏:‏ أن القريةَ هنا هي أنطاكيَّة، واخْتُلِفَ في هؤلاء المُرْسَلِينَ؛ فقال قتادة وغيره‏:‏ كانوا من الحواريِّينَ الذين بعثهم عيسى حِين رُفِعَ، وصُلِبَ الذي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَتَفَرَّقَ الحواريُّونَ في الآفاق، فَقَصَّ اللَّه تعالى هنا قصَّةَ الذين نَهَضُوا إلى أنْطَاكيَّة‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ بل هؤلاء أنبياءٌ مِن قِبَل اللَّهِ عزّ وجلّ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا يُرَجِّحُهُ قَوْلُ الكَفَرَةَ ‏{‏مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏}‏ فإنها محاورةٌ إنما تقال لمن ادَّعى الرِّسَالَةَ من اللَّه تعالى، والآخرُ مُحْتَمَلٌ، وذَكِرَ المفسرون في قَصَص الآيةِ أشياء يَطُولُ ذِكْرُها والصِّحَّةُ فيها غَيْر مُتَيَقَّنَةٍ، فَاخْتَصَرْتُه واللاَّزِمُ مِنَ الآيةِ أنَّ اللَّه تعالى بَعَثَ إلَيْهَا رَسُولَيْنِ، فَدَعَيَا أهلَ القَرْيَةِ إلى عبادةِ اللَّهِ وتوحيدِه، فَكَذَّبُوهُما فَشَدَّدَ اللَّهُ أمرهما بثالثٍ، وقامت الحجةُ على أهلِ القريةِ، وآمن منهم الرجلُ الذي جاءَ يسعى، وقتلوه في آخر أمره وكفروا، وأصابتْهم صيحةٌ مِن السَّمَاء فَخَمَدُوا، وقرأ الجمهُور‏:‏ «فَعَزَّزْنا» بِشَدِّ الزاي، على معنى‏:‏ قَوَّيْنَا‏.‏ وشَدَّدْنَا؛ وبهذا فسّره مجاهد وغيره، وهذه الأمة أنكرت النبوَّاتِ بقولِها‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَئ‏}‏ قال بعضُ المتأولين‏:‏ لما كَذَّبَ أهْلُ القرية المرسلينَ أسرع فيهم الجُذَامُ‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ احْتَبَسَ عنهم المطر؛ فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ‏}‏، أي‏:‏ تَشاءَمْنَا بكم، والأظهر أن تَطَيُّرَ هؤلاءِ إنَّما كَانَ بِسَبَبٍ ما دخَلَ قَرْيَتَهُمْ من اخْتِلافِ كَلِمَتِهِمْ وافْتِتَان النَّاسِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَئِن ذُكِّرْتُم‏}‏ جوابُه محذوف، أي‏:‏ تَطَيَّرْتُم، قاله أبو حيان وغيره، انتهى، وقولهُم عليهم السلام، ‏{‏طائركم مَّعَكُمْ‏}‏، معناه‏:‏ حظُّكُمْ وَمَا صَارَ لَكُمْ من خير وشرٍّ مَعَكُمْ أي‏:‏ من أَفْعَالِكم وَمِنْ تَكَسُّبَاتِكُمْ، ليس هو من أجْلنا، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر‏:‏ «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ» بهمزتين؛ الثانيةُ مكسورةٌ‏.‏ وقَرأ نافعٌ وغيرُه بتسهيل الثانية، وردِّها ياءً‏:‏ «أَيِنْ ذُكِّرْتُمْ»‏.‏ وأخبر تعالى عن حالِ رجلٍ جَاء من أقصى المدينةِ يَسْعَى؛ سَمِعَ المرسلينَ وفَهِمَ عَن اللَّهِ تعالى، فَدَعَا عَنْد ذلكَ قومَه إلى اتّباعِهم والإيمان بِهِم، إذ هوَ الحقُّ‏.‏ فَرُوِيَ عن ابن عباس وغيره، أن اسْمَ هذا الرجلِ حبيبٌ، وكان نَجَّاراً وكانَ فِيما قَال وهب بنُ مُنَبِّهٍ‏:‏ قد تَجَذّم‏.‏

وقيل‏:‏ كَان فِي غارٍ يَعْبُدُ ربَّهُ فقال‏:‏ ‏{‏ياقوم اتبعوا المرسلين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وذكر الناسُ في أسماءِ الرسلِ‏:‏ صَادِق، وصَدُوقٌ، وشَلُوم، وغير هذا، واللَّه أعلم بصحَّتِه، واخْتَلَفَ المفسِّرونَ في قوله ‏{‏فاسمعون‏}‏ فَقَال ابن عباس وغيره‏:‏ خاطب بها قوْمُه، أي‏:‏ على جهة المبَالَغَةِ والتَّنْبِيهِ‏.‏

وقيل‏:‏ خَاطَبَ بها الرُّسُلَ على جهة الاسْتِشْهَادِ بهم والاستحْفاظِ للأمْر عندهم‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهنا محذوفٌ تَواتَرَتْ به الأحادِيثُ والرِّوَاياتُ وهم أنهم قَتَلُوهُ فَقِيلَ له عند موته‏:‏ ‏{‏ادخل الجنة‏}‏ فَلَما أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بما رأَى من الكرَامَةِ قَالَ‏:‏ ‏{‏ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ‏.‏

‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قيل‏:‏ أراد بذلك الإشْفَاقَ والنصحَ لَهُمْ أي‏:‏ لَو علِمُوا ذلك، لآمنوا باللَّه تعالى، وقيل‏:‏ أراد أن يَعْلَمُوا ذلك فَيَنْدمُوا على فِعْلِهم به، وبخزيهم ذلك، وهذا موجود في جِبِلَّةِ البشر إذا نَال الشخصُ عزًّا وخَيْراً في أرض غُرْبةٍ وَدَّ أنْ يَعْلَم ذلك جِيرَانهُ وأتْرَابهُ الذينَ نَشَأَ فيهمْ، كما قيل‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

الْعِزُّ مَطْلُوبٌ وَمُلْتَمَس *** وَأَحَبُّهُ مَا نِيلَ في الوَطَنِ

قال * ع *‏:‏ والتأويلُ الأولُ أشبهُ بهذا العبدِ الصالح؛ وفي ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نَصَحَ قَوْمَه حَيًّا وَمَيِّتاً»؛ وقالَ قَتَادةُ‏:‏ نصَحَهُم على حالة الغَضَبِ والرِّضَا وَكَذِلكَ لاَ تجِدُ المؤمِنَ إلا ناصحاً للناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 32‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ‏(‏29‏)‏ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏31‏)‏ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، مخاطبة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فيها توعُّدٌ لقرَيْشٍ وتَحْذِيرُ أنْ يَنْزلَ بهمْ مِنَ العَذَابِ مَا نَزَلَ بقَومِ حَبِيبٍ النَّجَّار‏.‏

قال مجاهد‏:‏ لَم يُنْزِلِ اللَّهُ عَليهم من جُنْدٍ أرادَ أنه لم يُرْسِل إليهم رَسُولاً ولاَ اسْتَعْتَبَهُمْ، قال قتادة‏:‏ وَاللَّهِ، ما عَاتَبَ اللَّهُ قَوْمَهُ بَعْدِ قَتْلِه حَتَّى أهْلَكَهُمْ‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ أراد‏:‏ لَمْ يَحْتَجْ فِي تَعْذِيبهِمْ إلى جُنْدٍ، بلْ كَانَتْ صَيْحَةٌ واحِدَةٌ؛ لأنهم كانُوا أيْسَرَ وأهْوَنَ من ذلك، واخْتُلِفَ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ‏}‏ فقالتْ فرقة‏:‏ «ما» نافيةٌ، وقالت فرقة‏:‏ «ما» عَطْفٌ عَلَى جندٍ، أي‏:‏ من جند ومن الذي كنَّا منزلينَ على الأممِ مثلهم قبلَ ذلكَ، و«خامدون» أي‏:‏ ساكنُونَ موتَى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياحسرة‏}‏ الحسرةُ التَلَهُّفُ‏:‏ وذلك أن طِباعَ كُلِّ بَشَرٍ تُوجِبُ عَنْدَ سَمَاعِ حَالِهِمْ وعَذَابِهم على الكُفْرِ وَتَضْييِعِهم أمْرَ اللَّهَ، أن يُشْفِقَ وَيَتَحَسَّرَ على العِبَاد، وقال الثَّعْلَبِيُّ‏:‏ قال الضَّحَّاك‏:‏ إنها حسرةُ الملائِكَة على العباد في تكذيبِهمُ الرسلُ، وقال ابن عباس‏:‏ حلُّوا مَحَلَّ مَنْ يَتَحَسَّرُ عَلَيْهِ، انتهى‏.‏ وقرأ الأعرج وأبو الزنَاد ومسلم بن جندب‏:‏ ‏(‏يا حَسْرَهْ‏)‏ بالوقفِ على الهاء وهو أبلغ في معنى التَحَسُّرِ والتَّشْفِيقِ وهَزِّ النَفْسِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، تمثيلٌ لِفِعْلِ قُرَيْشٍ؛ وإيَّاهم عَنى بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏، وقرأ جمهورُ الناس «لما جَمِيعٌ» بتخفيف الميم، وذلك على زيادة «ما» للتأكيد والمعنى‏:‏ لَجَمِيعٌ، وقرأ عاصمٌ والحسَنُ وابن جبير ‏(‏لمَّا‏)‏ بشدِّ الميم، قالوا‏:‏ هي بمنزلة «إلاَّ» و‏{‏مُحْضَرُونَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ مُحَشَّرُونَ يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 36‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ‏(‏33‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ‏(‏34‏)‏ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏35‏)‏ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءَايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أحييناها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، و‏{‏ءَايَةٌ‏}‏‏:‏ معناه وعلامةٌ على الحَشْرِ وبَعْثِ الأجْسَادِ، والضميرُ في ‏(‏لهم‏)‏ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، والضميرُ في ‏(‏ثَمَرِهِ‏)‏ قيل هو عائدٌ على الماءِ الذي تَضَمَّنَه ذكرُ العيونِ، وقيلَ‏:‏ هو عائدٌ على جميع مَا تَقَدَّمَ مُجْمَلاً‏:‏ كأنه قال‏:‏ مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا «وما» في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ‏}‏ قال الطبري‏:‏ هي اسمٌ معطوفٌ على الثمر، أي‏:‏ يقع الأكل مِن الثمرِ، ومما عملتهُ الأيدِي بالغَرْسِ والزِّراعَةِ ونحوهِ‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ هي مصدريةٌ وقيل‏:‏ هي نافيةٌ، والتقديرُ أنهم يأكلون من ثمره وهُو شَيْءٌ لَمْ تَعْمَلْه أيديهم؛ بل هي نعْمَة مِنَ اللَّهِ تعالى عليهم، والأزواجُ‏:‏ الأنواع من جميع الأشياء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ نظيرُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ‏(‏39‏)‏ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءَايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار‏}‏ هذه الآياتُ جعلَها اللَّهُ عز وجل أدلةٌ على قدرتِه ووُجوبِ الألوهية له، و‏{‏نَسْلَخُ‏}‏ معناه نَكْشِطُ ونُقَشِّرُ‏:‏ فهي اسْتِعارة‏.‏

قلت‏:‏ قال الهروي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءَايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار‏}‏ أي‏:‏ نخرجه منه إخراجاً لا يَبْقَى من ضَوْءِ النهار معه شيء، انتهى‏.‏ و‏{‏مُّظْلِمُونَ‏}‏ داخلون في الظلام، ومُسْتَقَرِّ الشَّمْسِ‏:‏ على ما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي ذَرٍّ، ‏"‏ بَيْنَ يَدَيِ العَرْشِ تَسْجُدُ فِيه كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ غُرُوبِها ‏"‏ وهو فِي البخاري؛ وفي حديثٍ آخر ‏"‏ أنَّهَا تَسْجُدُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ ‏"‏ و‏{‏مَنَازِلَ‏}‏ منصوبٌ عَلى الظَّرفِ وهي المنازِلُ المعروفةُ عندَ العرَب، وهي ثمانيةٌ وعِشْرُونَ مَنْزِلَةً يَقْطَع القَمَرُ مِنها كلَّ لَيْلَةٍ مَنْزِلَةً، وعَودَتُه هي استهلالُه رَقِيقاً وحينئذ يُشْبه العُرْجُونَ، وُهو الغُصْنُ مِنَ النَّخْلَةِ الذي فيه شَمَارِيخُ التَّمْرِ، فإنَّه يَنْحَنِي وَيَصْفَرُّ إذا قَدِمَ، ويَجِيءُ أشْبَهَ شَيءٍ بِالهلال؛ قاله الحسَن، والوُجود يَشْهَدُ له، و‏{‏القديم‏}‏ معناه‏:‏ العَتِيقُ الذي قَدْ مَرَّ عَلَيْهِ زَمَنٌ طَوِيلٌ، و‏{‏يَنْبَغِى‏}‏ هنا مُسْتَعْملَة فيما لا يمكنُ خِلاَفُه؛ لأنها لاَ قُدْرَةَ لَهَا عَلى غَيْرِ ذلك، وال«فلك» فيما رُوِيَ عنِ ابْنِ عَباسٍ مُتَحَرِّك مُسْتَدِير كَفَلَكَةِ المغْزَلِ فِيهِ جَمِيعُ الكَوَاكِبِ و‏{‏يَسْبَحُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يَجْرُونَ وَيَعُومُونَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 46‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏41‏)‏ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ‏(‏43‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏45‏)‏ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الفلك‏}‏ الآية، ذكرَ الذريةَ لِضَعْفِهم عن السفر، فالنعمةُ فيهم أمْكَنُ، والضمير المتصل بالذريات، هو ضميرُ الجنس، كأنه قال‏:‏ ذرياتُ جنسِهم أو نوعِهم؛ هذا أصح ما يتجه في هذا‏.‏

وأما معنى الآية؛ فقال ابن عباس وجماعةٌ‏:‏ يريد بالذرياتِ المحمولينَ أصحابَ نوحٍ في السفينةِ، ويريد بقوله‏:‏ ‏{‏مِّن مِّثْلِهِ‏}‏ السفن الموجودةَ في جنسِ بني آدم إلى يوم القيامة، وإيَّاها أرَادَ بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ‏}‏، وقال مجاهدٌ وغيرُه‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون‏}‏‏:‏ السفنُ الموجودةُ في بني آدم إلى يوم القيامة، ويريد بقوله‏:‏ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ الإبلَ وسائرَ ما يُرْكَبُ؛ فتكون المماثلة في أنه مركوبٌ مُبَلِّغٌ إلى الأقطار فقط، ويعودُ قولهُ‏:‏ ‏{‏وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ‏}‏ على السفنِ الموجودةِ في الناس، والصريخُ؛ هنا بمعنى المُصْرِخِ المُغِيثِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا‏}‏ قال الكسائيُّ‏:‏ نصبَ ‏{‏رَحْمَةً‏}‏ على الاسْتِثْنَاءِ، كأنه قال‏:‏ إلاَّ أَنْ نَرْحَمَهُمْ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ يريدُ إلى آجالِهم المضروبةِ لهم، ثم ابْتَدَأَ الإخبارَ عَنْ عُتُوِّ قريشٍ بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ‏}‏ قال قتادة ومقاتل‏:‏ ما بين أيديهم‏:‏ هو عذابُ الأمم الذي قد سَبَقَهُمْ في الزمن؛ وهذا هو النظرُ الجيدُ‏:‏ وقال الحسنُ‏:‏ خُوِّفُوا بما مضَى من ذنوبِهم؛ وبما يأتي منها، قال * ع *‏:‏ وهذا نحوُ الأولِ في المعنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، الضميرُ في قوله ‏{‏لَهُمْ‏}‏ لقريشٍ؛ وسبب الآيةِ أن الكفارَ لمَّا أسلمَ حواشِيهم مِنَ الموالي وغيرِهِمْ، والمستضعفين، قطعوا عنهم نَفَقَاتِهم وصِلاَتِهم، وكان الأمرُ بمكةَ أوَّلاً فيه بعض الاتِّصَال في وقت نزول آيات المُوَادَعَةِ، فَنَدَبَ أولئك المؤمنونَ قَرَابَاتِهم من الكفارِ، إلى أَنْ يَصِلُوهُمْ ويُنْفِقُوا عليهم، مِمَّا رَزَقَهُم اللَّه؛ فقالوا عند ذلك‏:‏ ‏{‏أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ الله أَطْعَمَهُ‏}‏‏.‏

وقالتْ فرقة‏:‏ سبب الآيةِ أنَّ قريشاً شَحَّتْ بِسَبَبِ أزمةٍ على المساكينِ جميعاً مُؤمن وَغَيْرِ مؤمن، فَنَدَبَهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى النَّفَقَةِ على المساكينَ، وقولهُم يَحْتَمِلُ معنيين‏:‏

أحدهما يخرَّج على اختيارٍ لجُهَّالِ العَرَبِ، فَقَد رُوِيَ أن أعْرَابِيًّا كان يرعى إبله فيجعلُ السِّمَانَ في الْخِصْبِ، والمَهَازِيلَ في المَكَانِ الجَدْبِ، فقيل له في ذلك؛ فقال‏:‏ أكْرِمُ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ وأهين ما أهانَ اللَّهُ، فيخرَّج قولُ قريشٍ على هذا المعنى، ومن أمثالهم‏:‏ «كُنْ مَعَ اللَّهِ عَلَى المدبِرِ»‏.‏

والتأويل الثاني‏:‏ أن يكونَ كلامُهم بمعنى الاسْتِهْزَاءِ بقول محمد عليه السلام إنَّ ثَمَّ إلها هو الرزَّاقُ، فكأنهم قالوا‏:‏ لِمَ لاَ يَرْزُقُهم إلهك الذي تزعم، أي‏:‏ نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمْتَ، لأطْعَمَهُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ يَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ من قول الكَفَرَةِ للمؤمنين، أي‏:‏ في أمركم لنا بالنفقةِ؛ وفي غير ذلكَ من دينكم، ويحتملُ أن يكون من قولِ اللَّهِ تعالى للكفرةِ‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ أي‏:‏ متى يوم القيامة‏.‏

وقيل‏:‏ أرادوا‏:‏ متى هذا العذابُ الذي تَتَهَدَّدُنَا به، و‏{‏مَا يَنظُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يَنْتَظِرُونَ، و«ما» نافيةٌ، وهذه الصيحةُ هي صيحةُ القيامةِ؛ وهي النَّفْخَةُ الأولَى، وفي حديثِ أبي هريرةَ أن بَعْدَهَا نَفْخَةَ الصَّعْقِ، ثم نَفْخَةَ الحَشْرِ، وهي التي تَدُومُ؛ فَمَا لها مِنْ فَوَاقٍ، وأصل ‏{‏يَخِصِّمُونَ‏}‏‏:‏ يَخْتَصِمُونَ، والمعنى‏:‏ وهم يَتَحَاوَرُونَ ويتراجعونَ الأَقْوَالَ بَيْنَهُمْ، وفي مُصْحَف أُبَيِّ بن كَعْبٍ «يختصمون»، ‏{‏وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏؛ لإعجالِ الأمْرِ، بلْ تَفِيضُ أنفُسهم؛ حيثُ مَا أخَذَتْهُم الصيحةُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ‏(‏51‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏52‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏53‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ‏}‏‏:‏ هذه نَفْخَةُ البعثِ، والأجْدَاثُ‏:‏ القبُور، و‏{‏يَنسِلُونَ‏}‏ أي يَمْشُونَ مُسْرِعِين‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «مَنْ أَهَبَّنَا مِنْ مَرْقَدِنَا»، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وغيرهِ‏:‏ أن جميعَ البَشَرِ يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الحشرِ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا غيرُ صحيحِ الإسْنَاد، وإنما الوجهُ في قولهم‏:‏ ‏{‏مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏‏:‏ أنها اسْتَعَارَةٌ؛ كَمَا تَقُولُ في قتيلٍ‏:‏ هذا مرقَدُه إلى يومِ القيامةِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن‏}‏ جوَّزَ الزَّجَّاجُ أنْ يكونَ «هذا» إشارةً إلى المَرْقَدِ، ثم اسْتَأنَفَ ‏{‏مَا وَعَدَ الرحمن‏}‏ ويُضْمِرُ الخبرَ «حق» أو نحوه، وقال الجمهور‏:‏ ابتداءُ الكلامِ‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن‏}‏ واخْتُلِفَ في هذه المقَالَةِ مَنْ قالَها‏؟‏ فقال ابن زيد‏:‏ هيَ مِنْ قَوْلِ الكفرةِ، وقال قتادة ومجاهد‏:‏ هي من قولِ المؤمنينَ للكفارِ‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هي مِنْ قَوْلِ الملائكةِ، وقالت فرقة‏:‏ هي مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تعالى على جِهَةِ التَّوْبِيخ، وباقي الآية بيِّنٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ‏(‏55‏)‏ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ‏(‏56‏)‏ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ‏(‏57‏)‏ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ‏(‏58‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هو افْتِضَاضُ الأبكار‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ هو سماع الأوتارِ‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ معناهُ‏:‏ نعيمٌ قَدْ شَغَلَهُمْ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا هو القول الصحيح؛ وتعيينُ شَيْءٍ دونَ شَيْءٍ لا قياسَ له‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُمْ وأزواجهم فِى ظلال‏}‏ جاءَ في «صحيح البخاري» وغيره عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَال‏:‏ ‏"‏ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ‏:‏ إمامٌ عادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّه، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِالمَسْجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيه، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ؛ فَقَال‏:‏ إنِّي أخافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ؛ فَأَخْفَاهَا حتى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ تعالى خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ‏"‏ انتهى‏.‏ وهذا الظِّلُّ المذكورُ في الحديث؛ هو في المَحْشَرِ‏.‏

قال الشيخ ابن أبي جَمْرَةَ ‏(‏رضي اللَّه عنه‏)‏‏:‏ وظِلاَلُ الآخِرَةِ، ما فيها مُباحٌ؛ بل كلُّها قد تملكت بالأَعْمَالِ التي عملها العاملون الذين هَدَاهُم اللَّه تعالى؛ فليسَ هناك لصعلوكِ الأَعْمَالِ ظلٌّ، انتهى؛ وهو كما قال، فشَمِّرْ عَنْ سَاقِ الجِدِّ؛ إن أردْتَ الفوز؛ أيُّها الأخُ والسلام‏.‏ و‏{‏الأرائك‏}‏‏:‏ السررُ المفروشةُ، قيل‏:‏ ومِنْ شَرْطِها أنْ تَكُونَ عليها حَجَلَة وإلاَّ فليستْ بأرِيكةٍ؛ وبذلك قيَّدها ابن عَبَّاسٍ وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَدَّعُونَ‏}‏ بمنزلةِ ما يَتَمَنَّوْنَ‏.‏

قال أبو عُبَيْدَةَ‏:‏ العربُ تقولُ‏:‏ ادع عَلَيَّ ما شِئْتَ بمعنى‏:‏ تَمَنَّ عَلَيَّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏ قِيلَ‏:‏ هي صفةٌ، أي‏:‏ مُسَلَّمٌ لَهُم، وخالصٌ، وقِيل‏:‏ هو مبتدأ، وقيل‏:‏ هو خبرُ مبتدإٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 65‏]‏

‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏60‏)‏ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ‏(‏62‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏64‏)‏ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامتازوا اليوم‏}‏ فيه حَذْفٌ تقديره؛ ونقول للكفرة، «وامتازوا» معناه‏:‏ انْفَصِلُوا وانْحَجِزُوا؛ لأن العَالَمَ فِي الموقف إنما هم مختلطون‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وهَذَا يَحْتَاجُ إلى سَنَدٍ صحيحٍ، وفي الكلام إجمال، ويومُ القيامةِ هو مواطن، ثم خاطَبَهُمْ تعالى لما تَمَيَّزُوا، تَوْبِيخاً وتَوْقِيفاً على عَهْدِهِ إليهم ومخالفتِهم له، وعبادةُ الشيطانِ هي طاعتُهُ والانقيادُ لإغْوائِهِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ إشارَةٌ إلى الشرائع؛ إذ بعَثَ اللَّهُ آدم إلى ذريتِه؛ ثمَّ لَمْ تَخْلُ الأرْضُ من شريعةٍ إلى خَتْمِ الرسالةِ بسيدِنا محمدٍ خَاتَمِ النبيِّينَ، و«الجِبِلُّ»‏:‏ الأمةُ العظيمة، ثم أَخْبَرَ سبحانَهُ نبيَّه محمَّداً عليه السلام أخبَاراً تُشَارِكُهُ فيه أمَّتُه؛ بقوله‏:‏ ‏{‏اليوم نَخْتِمُ على أفواههم‏}‏ وذلك أن الكفارَ يَجْحَدُونَ، ويَطْلبُون شهيداً عليهم من أنفسهم؛ حَسْبَمَا وَرَدَ في الحديث الصحيح؛ فعندَ ذلِك يَخْتِمُ اللَّهُ تعالى على أفواههم، ويَأْمُرُ جَوَارِحَهُمْ بالشَّهَادَةِ؛ فَتَشْهَدُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ‏(‏66‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ‏(‏67‏)‏ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه ‏{‏وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ‏}‏ الضميرُ في «أعْيُنِهِمْ» لكفارِ قريش، ومعنى الآية‏:‏ تَبْيِينُ أَنَّهُمْ في قَبْضَةِ القدرةِ، وبمَدْرَجِ العَذَابِ‏.‏

قالَ الحَسَنُ وقتادة‏:‏ أراد الأعْيُنَ حقيقة، والمعنى‏:‏ لأَعْمَيْنَاهُمْ؛ فَلاَ يَرَوْنَ كَيْفَ يَمْشُونَ؛ ويؤيدُ هذا مجانسةُ المَسْخِ لِلْعَمَى الحَقِيقِيِّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الصراط‏}‏ معناه‏:‏ على الفَرْضِ والتقدير، كأَنَّه قال‏:‏ ولو شِئْنَا لأَعْمَيْنَاهم، فاحسب أو قَدِّرْ أَنَّهُمْ يَسْتَبِقُونَ الصِّرَاطَ؛ وهو الطريقُ، فَأَنَّى لَهُمْ بالإبْصَارِ، وَقَدْ أَعْمَيْنَاهُمْ، وعبارةُ الثَّعْلَبِيِّ‏:‏ وقالَ الحسنُ والسدي‏:‏ ولو نشاء لَتَرَكْنَاهُمْ عُمْياً يَتَرَدَّدُونَ؛ فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ الطريقَ حينئذ، انتهى، وقال ابن عباس‏:‏ أراد‏:‏ أعْيُنَ البَصَائِر؛ والمَعْنَى‏:‏ لو شِئْنَا لَحَتَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ؛ فلم يهتدِ منْهم أحَدٌ أبداً، وبَيَّنَ تعالى في تنكِيسِه المُعَمَّرِينَ، وأن ذلك مما لا يَقْدِرُ عليه إلا هو سبحانه، وتَنْكِيسُه‏:‏ تَحَوُّلُ خَلْقِه من القوةِ إلى الضَّعْفِ؛ ومِنَ الفَهْمِ إلى البَلَهِ، ونَحْوُ ذلك‏.‏

ثم أخْبَرَ تعالى عَن حالِ نبيه محمدٍ عليه السلام رَادًّا عَلى مَنْ قَال من الكفرة‏:‏ إنه شَاعرٌ وإن القرآن شِعْرٌ بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا علمناه الشعر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 76‏]‏

‏{‏لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏70‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ‏(‏71‏)‏ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ‏(‏75‏)‏ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً‏}‏ أي‏:‏ حيَّ القَلْبِ والبَصِيرَةِ، ولم يكن مَيِّتاً لكُفْرِهِ؛ وهذه استعارةٌ، قال الضحاك‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ حَيّاً‏}‏ معناه‏:‏ عاقِلاً، ‏{‏وَيَحِقَّ القول‏}‏ معناه‏:‏ يُحَتَّمَ العذابُ ويَجِبَ الخُلُودُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا‏}‏ الآيةُ‏.‏ مخاطَبةٌ لقريشٍ أيضاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيْدِينَا‏}‏ عبارةٌ عَنِ القُدْرةِ، واللَّه تعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الجارِحَةِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لَهَا مالكون‏}‏ تنبيهٌ على النِعْمَةِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يُحْضَرُونَ لهُمْ في الآخِرةِ على معنى التوبيخِ والنِّقْمةِ، وسَمَّى الأصْنَامَ جُنْداً؛ إذْ هُمْ عُدَّةٌ للنِّقْمَة من الكفرة، ثم أنَّسَ اللَّهُ نبيَّه عليه الصلاة والسلام بقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ وَتَوَعَّدَ الكَفَرَةَ بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 83‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏77‏)‏ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ‏(‏78‏)‏ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ‏(‏80‏)‏ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏81‏)‏ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏82‏)‏ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ الآية، والصحيحُ في سببِ نزولِ الآيةِ هو ما رَوَاهُ ابنُ وَهَبْ عَنْ مَالِكٍ؛ وقالهُ ابنُ إسْحَاقٍ وغيرهُ أن أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ؛ جاء بعَظْمٍ رَمِيمٍ، فَفَتَّهُ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحِيَالَهُ، وقَالَ‏:‏ مَنْ يُحْيِي هذا يا محمد؛ ولاَبِيٍّ هذا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقَامَاتٌ ومَقَالاَتٌ إلى أن قَتَلَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِيدهِ يومَ أحُدٍ؛ طَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ في عنقه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَسِىَ خَلْقَهُ‏}‏ يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ نسيانَ الذُّهُولِ، ويحتملُ أنْ يكُونَ نسيانَ التَّرْكِ، والرَّمِيمُ‏:‏ البالي المُتَفَتِّتُ، وهو الرُّفَاتُ، ثم دلَّهُم سبحانه عَلى الاعْتِبَارِ بالنَّشْأَةِ الأولى، ثم عَقَّبَ تعالى بدليل ثَالثٍ في إيجادِ النَّارِ في العُودِ الأخْضَرِ المُرْتَوِي ماءً، وهذا هو زِنَادُ العَرَبِ، والنارُ موجودةٌ في كل عودٍ غَيْرَ أَنَّها في المُتَخَلخِلَ المَفْتُوحِ المَسَامِّ أَوْجَدُ، وكذلك هو المَرْخُ والعَفَار، وجمعَ الضميرَ جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ في قوله‏:‏ ‏{‏مِثْلَهُم‏}‏؛ من حيثُ إن السمواتِ والأَرْضَ متضمِّنةٌ مَنْ يَعْقِلُ من الملائِكَةِ والثَّقَلَيْنِ؛ هذا تأويلُ جماعةٍ، وقيل‏:‏ ‏{‏مِثْلَهُم‏}‏ عائدٌ على الناسِ، وبَاقِي الآيَةِ بَيِّنٌ‏.‏

سورة الصافات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ‏(‏1‏)‏ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ‏(‏4‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ‏(‏6‏)‏ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ‏(‏7‏)‏ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ‏(‏8‏)‏ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ‏(‏9‏)‏ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والصافات صَفًّا‏}‏ الآية، أقْسَمَ تعالى في هذه الآية بأشْيَاءَ مِنْ مخلوقاتِه، قالَ ابنُ مسعودٍ وغيرُه‏:‏ «الصافات» هي الملائكة تَصُفُّ في السماءِ في عبادةِ اللَّه عز وجل‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ المرادُ‏:‏ صفوفُ بني آدم في القتال في سبيل اللَّهِ، قال * ع *‏:‏ واللفظُ يَحْتَمِلُ أنْ يَعُمَّ هذه المذكوراتِ كلَّها، قال مجاهد‏:‏ «وَالزاجِرات» هي الملائكة تَزْجُرُ السحابَ وغير ذلك من مخلوقاتِ اللَّه تعالى، وقال قتادة‏:‏ «الزاجرات» هي آيات القرآن، و«التاليات ذِكْراً» معناه‏:‏ القارئات، قال مجاهد‏:‏ أراد الملائكة التي تَتْلُو ذِكره، وقال قتادة‏:‏ أراد بني آدم الذين يَتْلُونَ كُتُبَهُ المنزلةَ وتسبيحَه وتكبيرَه ونحوَ ذلك، والمُقْسَمُ عليه‏:‏ قولهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَّارِدٍ‏}‏ قال العراقيُّ‏:‏ مَارِدٌ سُخِطَ عَلَيْهِ، وهكذا ‏{‏مَّرِيدٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3‏]‏ انتهى؛ وهَذَا لَفْظُهُ، والمَلأ الأعلى‏:‏ أهلُ السَّمَاءِ الدنيا فما فوقها، وسُمِّيَ الكُلُّ منهم أعلاى؛ بالإضَافَةِ إلى ملإ الأرْضِ الذي هو أسفلُ، والضمير في ‏{‏يَسَّمَّعُونَ‏}‏ للشياطين، وقرأ حمزة، وعاصم في رواية حفص‏:‏ «لا يَسَّمَّعُونَ»، بشد السين والميم، بمعنى‏:‏ لا يَتَسَمَّعُونَ، فينتفي على قراءة الجمهورِ سَمَاعُهُمْ، وإن كانوا يستمعون؛ وهو المعنى الصحيحُ، ويعْضُدُه قولهُ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏ ‏{‏وَيَقْذِفُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يُرْجَمُونَ، والدَّحُورُ‏:‏ الإصْغار والإهانَةُ، لأن الدَّحْرَ هو الدَّفْعُ بِعُنْفٍ، وقال البخاريُّ‏:‏ ‏{‏وَيَقْذِفُونَ‏}‏ يُرْمَوْنَ و‏{‏دُحُوراً‏}‏ مُطْرَدِين، وقال ابن عباسٍ‏:‏ «مدحوراً» مَطْرُوداً، انتهى، والوَاصِبُ‏:‏ الدائم؛ قاله مجاهد وغيره، وقال أبو صالح‏:‏ الواصبُ‏:‏ المُوجِعُ، ومنه الوَصَبُ، والمعنى‏:‏ هذه الحالُ هي الغالبةُ على جميع الشياطين إلا مَنْ شَذَّ فَخَطَفَ خَبَراً أو نَبَأً، ‏{‏فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ‏}‏ فأحرقَه، والثَّاقِبُ، النافِذُ بضوئه وشعاعِه المنير؛ قاله قتادة وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ‏(‏11‏)‏ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ‏}‏ أي‏:‏ فلا يُمْكِنُهُمْ أن يقولوا إلا أنَّ خَلْقَ مَنْ سواهُم من الأمَمِ والملائِكَة، والجنِّ والسَّمواتِ والأرضِ والمشارِق والمغارِبِ وغير ذلك هو أشَدُّ مِنْ هؤلاءِ المخاطَبِينَ، وبأن الضمير في ‏{‏خَلَقْنَآ‏}‏ يرادُ به ما تقدم ذكره، قال مجاهد وقتادة وغيرهما‏:‏ ويُؤَيِّدُه ما في مصحف ابن مسعود «أُمْ مَنْ عَدَدْنَا»؛ وكذلك قرأَ الأَعْمَشُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا خلقناهم مِّن طِينٍ‏}‏ أي‏:‏ خلقُ أصلِهم وهو آدم عليه السلام، واللاّزِبُ‏:‏ اللازمُ‏:‏ يَلْزَمُ ما جاورَهُ ويَلْصَقُ به، وهُوَ الصَّلْصَالُ، ‏{‏بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ يا محمدُ مِنْ إعْرَاضِهِم عن الحق، وقرأ حمزةُ والكسائي «بل عَجِبْتُ» بضمِ التاء؛ وذلك على أن يكونَ تَعَالَى هو المُتَعَجِّبُ ومعنَى ذَلِكَ مِن اللَّه تعالى‏:‏ أنه صِفًةُ فِعْلٍ، ونحوُه قولهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يَعْجَبُ اللَّهُ مِنَ الشّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ ‏"‏ فإنَّما هِي عِبَارَةٌ عَمَّا يُظْهِرُهُ اللَّه تعالى في جِانِبِ المُتَعَجَّبِ مِنْهُ من التعظيمِ أو التحقير حَتَّى يصيرَ الناسُ مُتَعَجِّبِينَ مِنه، قال الثعلبي‏:‏ قال الحسينُ بن الفضل‏:‏ التعجبُ من اللَّهِ إنكارُ الشيء، وتعظيمهُ؛ وهو لغة العرب، انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْخَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وهمْ يَسْخَرُونَ من نُبُوَّتِكَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 26‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏16‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏17‏)‏ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏19‏)‏ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏20‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏21‏)‏ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏22‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ‏(‏23‏)‏ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ‏(‏24‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ‏(‏25‏)‏ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً يَسْتَسْخِرُونَ‏}‏ يريدُ بالآية‏:‏ العلامةَ والدلالة، ورُوِيَ أنَّها نزلتْ في رُكَانة وَهُوَ رَجُلٌ من المشركينَ مِن أهلِ مكةَ؛ لقيَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في جَبَلٍ خَالٍ وهُوَ يرعى غَنَماً له؛ وكانَ أقوى أهْلِ زَمانِه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يَا رُكَانَةُ؛ أَرَأَيْتَ إنْ صَرَعْتُكَ؛ أَتُؤْمِنُ بِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثاً ‏"‏، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ دُعَاءِ شَجَرَةٍ وإقْبَالَهَا، ونَحْوَ ذَلك مما اخْتَلَفَتْ فيه ألفاظُ الحديثِ، فَلَمَّا فَرَغَ ذلكَ لَم يُؤْمِنْ، وجاءَ إلى مَكَّةَ، فَقَالَ‏:‏ يَا بني هَاشِمٍ، سَاخِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الأرضِ، فنزلَتْ هذه الآية فيه وفي نُظَرَائِه، و‏{‏يَسْتَسْخِرُونَ‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ معناه‏:‏ يَسْخَرُونَ، ثم أمر تعالى نبيَّه أن يُجِيبَ تَقْرِيرَهُمْ واستفهامهم عَنِ البَعْثِ ب ‏{‏نِعْمَ‏}‏، وأن يزيدَهُمْ في الجواب، أنَّهُمْ معَ البعث في صَغَارٍ وذلَّةٍ واستكانةٍ، والدَّاخِرُ‏:‏ الصَّاغِرُ الذليلُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بيانهُ غيرَ ما مَرَّةٍ، والزَّجْرَةُ الواحدةُ‏:‏ هِيَ نَفْخَةُ البَعْثِ، قال العِرَاقِيُّ‏:‏ الزَّجْرَةُ‏:‏ الصَّيْحَةُ بانتهار، انتهى‏.‏ و‏{‏الدين‏}‏‏:‏ الجزاءُ، وأجمَع المفسِّرُونَ على أن قولَه تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ لَيْسَ هو من قولِ الكَفَرَةِ وإنما المعنى‏:‏ يُقَالُ لهُم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأزواجهم‏}‏ معناه‏:‏ أنوَاعُهُم وضُرَباؤهم؛ قاله عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة، ومعهم ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله‏}‏ مِنْ آدَمِيٍّ رَضِيَ بذلكَ، ومن صَنَمٍ وَوَثَنٍ؛ توبيخاً لهم وإظهاراً لِسُوءِ حالهم، وقال الحسنُ‏:‏ ‏{‏أزواجهم‏}‏ نساؤهم المشركاتُ‏:‏ وقاله ابن عباس أيضاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهدوهم‏}‏ معناه‏:‏ قَدِّمُوهم واحملوهم على طريق الجحيم، ثم يأمر اللَّهُ تعالى بوقوفهم على جِهَةِ التَّوْبِيخِ لهم والسؤال، قال جمهور المفسرين‏:‏ يُسْأَلُونَ عن أعمالهم ويُوقَفُونَ على قُبْحِها، وقد تقدَّم قولهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديثَ، قال * ع *‏:‏ ويَحْتَمِلُ عندي أنْ يكونَ المعنى على نحوِ ما فسَّره تعالى بقولهِ‏:‏ ‏{‏مَالَكُمْ لاَ تناصرون‏}‏ أي‏:‏ إنهم مسؤلونَ عن امْتِنَاعِهم عن التَّنَاصُرِ؛ وهذا على جهة التَّوْبِيخِ، وقرأ خلق «لا تَتَنَاصَرُونَ»‏.‏ * ت *‏:‏ قال عِيَاضٌ في «المدارك»‏:‏ كان أبو إسْحَاقَ الجبنياني ظَاهِرَ الحُزْنِ، كثيرَ الدَّمْعَةِ يَسْرُدُ الصِّيَامَ، قال ولده أبو الطاهِر‏:‏ قال لي أبي‏:‏ إن إنساناً بقي في آية سنةً لَمْ يَتَجَاوَزْهَا، وهِي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ‏}‏ فقلتُ له‏:‏ أَنْتَ هُوَ‏؟‏ فَسَكَتَ، فعلمتُ أَنَّه هو، وكانَ إذا دَخَلَ في الصَّلاَةِ‏:‏ لَوْ سَقَطَ البيتُ الذي هو فيه، ما التَفَتَ، إقبالاً على صَلاَتِهِ، واشتغالا بمناجَاة ربِّهِ، وكانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَضْيِيقاً على نَفْسِهِ؛ ثم عَلى أَهْلِه، وكان يأكلُ البَقْلَ البَرِّيَّ والجَرَادَ إذا وَجَدَهُ ويَطْحَنُ قُوتَهُ بِيَدِهِ شَعِيراً، ثُم يَجْعَلُهُ بِنُخَالَتِهِ دَقِيقاً في قِدْرٍ مع مَا وَجَدَ مِنْ بَقْلٍ بَرِّيٍّ وَغيرِه، حتى إِنّه رُبَّما رَمَى بِشَيْءٍ مِنْهُ لِكَلْبٍ أَو هِرٍّ؛ فَلا يَأْكُلُهُ، وكانَ لِبَاسُهُ يَجْمَعُهُ مِنْ خِرَقِ المَزَابِلِ وَيُرَفِّعُهُ، وَكَانَ يَتَوَطَّأُ الرَّمْلَ، وَفي الشِّتَاءِ يَأْخُذُ قِفَافَ المَعَاصِرِ المُلْقَاةِ على المَزَابِلِ يجعلُها تَحْتَهُ، قال وَلَدُهُ أبو الطَّاهِرِ‏:‏ وكنَّا إذا بَقِينَا بلا شَيْءٍ نَقْتَاتُهُ، كُنْتُ أَسْمَعُهُ في اللَّيْل يَقُولُ‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

مَالِي تِلاَدٌ ولاَ استطرفت مِنْ نَشَب *** وَمَا أُؤمِّلُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ

إنَّ الْقُنُوعَ بِحَمْدِ اللَّهِ يَمْنَعُنِي *** مِنَ التَّعَرُّضِ للمَنَّانَةِ النَّكِدِ

انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 34‏]‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏29‏)‏ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ‏(‏30‏)‏ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ‏(‏32‏)‏ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ‏}‏ هذه الجماعَةُ التي يقْبِلُ بعضُها على بعضٍ هي جِنٌّ وإنْسٌ؛ قاله قتادة، وتَسَاؤُلُهم هو على معنى التَّقْرِيعِ واللَّوْمِ والتَّسَخُّطِ، والقائلون‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا‏}‏ إما أنْ يكونَ الإنْسُ يقولونها للشياطينِ؛ وهذا قول مجاهد وابن زيد، وإما أنْ يكونَ ضَعَفَةُ الإنْسِ يقولُونَهَا لِلكبراءِ والقادةِ، واضطَرَبَ المُتَأَوِّلُونَ في معنى قولهم‏:‏ ‏{‏عَنِ اليمين‏}‏؛ فعبَّر ابنُ زيد وغيرُه عنه بطريقِ الجَنَّةِ، ونحو هذا من العباراتِ التي هي تفسيرٌ بالمعنى، ولا يختصُّ بنَفْسِ اللَّفْظَةِ، والذي يخصُّها مَعَانٍ‏:‏ منها أن يريدَ باليمين‏:‏ القوةَ‏.‏ أي‏:‏ تحملونَنَا على طريقِ الضَّلاَلَةِ بقوةٍ، ومنها أن يريدَ باليمينِ‏.‏ اليُمْنَ، أي‏:‏ تأتوننا من جِهَة النصائِح والعملِ الذي يُتَيَمَّنُ به، ومن المعاني التي تحتملها الآيةُ؛ أن يريدوا أنكم كُنتم تجيئُونَنَا من جهة الشَّهَوَاتِ، وأكثرُ ما يَتَمكَّنُ هذا التأويلُ مع إغواء الشياطين، وقيلَ‏:‏ المعنى تَحْلِفونَ لنا، فاليمينُ على هذا‏:‏ القَسَمُ، وقد ذَهَبَ بعضُ العلماءِ في ذكرِ إبليسَ جهاتِ بني آدم في قوله‏:‏ ‏{‏مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَآئِلِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏ إلى ما ذكرناه من جهةِ الشهوات‏.‏ ثم أخْبَرَ تعالى عن قول الجِنّ المجيبينَ لهؤلاءِ بقولهم‏:‏ ‏{‏بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏، أي‏:‏ ليس الأمْرُ كما ذكرتمْ؛ بل كانَ لكمُ اكتسابُ الكُفْرِ؛ وما كانَ لنَا عليكم حُجَّةٌ، وبنحو هذا فَسَّرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قولُ الجِنِّ إلى ‏{‏غاوين‏}‏‏.‏ ثم أخْبَرَ تعالى بأنهم جميعاً في العذابِ مشتركون، وأنَّ هذا فعلُه بأهل الجُرْم والكُفْر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 39‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏35‏)‏ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ‏(‏36‏)‏ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قُلْتُ‏:‏ جاء في فضل «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» أحاديثُ كثيرةٌ؛ فمنها ما رواه أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ قَالَ موسى‏:‏ يَا رَبِّ؛ علِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ بِهِ، وأدْعُوكَ بِهِ، قال‏:‏ قُلْ، يَا مُوسَى‏:‏ «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» قال‏:‏ يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا، قَالَ‏:‏ قُلْ‏:‏ «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» قَالَ‏:‏ إنَّمَا أُرِيدُ شَيْئاً تَخُصُّنِي بِهِ، قَالَ‏:‏ يَا موسى، لَوْ أَنَّ السموات السَّبْعَ والأَرْضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، و«لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» في كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» ‏"‏ رواه النسائي وابن حِبَّانَ في «صحيحه»، واللفظ لابن حِبَّان، وعنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ وقول لاَ إله إلاَّ اللَّهُ لاَ تَتْرُكُ ذَنْبَاً وَلاَ يُشْبِهُهَا عَمَلٌ ‏"‏، رواه الحاكم في «المُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وقال صحيح الإسنَاد، انتهى منَ «السِّلاح»، والطائفةُ التي قالَتْ‏:‏ ‏{‏أَئِنَّا لَتَارِكُواْ ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ‏}‏ هي قريشٌ وإشارتهم بالشاعر إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين‏}‏ الذينَ تَقَدَّمُوهُ، ثم أَخْبَرَ تعالى مخاطباً لهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 48‏]‏

‏{‏إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ‏(‏41‏)‏ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ‏(‏42‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏43‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏44‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏45‏)‏ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ‏(‏46‏)‏ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ‏(‏47‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ استثناءٌ مُنْقَطِعٌ وهؤلاءِ المؤمنون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَّعْلُومٌ‏}‏ معناه‏:‏ عندهُمْ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَيْضَآءَ‏}‏ يَحْتَملُ أَنْ يعودَ على الكأسِ، ويحتملُ أنْ يعودَ على الخَمْرِ، وهو أظهرُ قال الحسنُ‏:‏ خَمْرُ الجَنَّةِ أَشَدُّ بياضاً مِنَ اللَّبَنِ، وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ «صفراء» فهذا وصفُ الخمرِ وحدَها، والغَوْلُ‏:‏ اسمٌ عامٌّ في الأذى، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ الغَوْلُ‏:‏ وَجَعٌ في البطْنِ، وقال قتادةُ هو صُدَاعٌ في الرَّأْسِ و‏{‏يُنزَفُونَ‏}‏ من قولك‏:‏ نُزِفَ الرَّجُلُ إذا سَكِرَ، وبإذْهابِ العَقْلِ فَسَّره ابن عباس، وقرأ حمزة والكسائي «يُنْزِفُونَ» بكسرِ الزاي من «أتْرَفَ» وله معنيان‏.‏

‏[‏أحدهما‏:‏ سَكِر‏.‏

والثاني‏:‏ نَفِدَ شَرَابُه‏.‏

وهذا كله مَنْفِيٌّ عَنْ أهلِ الجنَّةِ‏.‏

و ‏{‏قاصرات الطرف‏}‏ قال ابن عباس وغيره معناه على أزواجهن، أي‏:‏ لا ينظُرْنَ إلى غيرهم، و‏{‏عِينٌ‏}‏‏:‏ جَمْعُ «عَيْنَاءَ»، وهي الكَبِيرةُ العَيْنينِ في جَمَالٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 53‏]‏

‏{‏كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ‏(‏49‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏50‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ‏(‏51‏)‏ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ‏(‏52‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ قال ابن جبير والسُّدِّيُّ‏:‏ شَبَّه ألوانَهُنَّ بِلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ الداخليِّ، وهو المكنونُ، أي المَصُونُ، ورجَّحَه الطبريُّ، وقال الجمهور‏:‏ شَبَّه أَلْوَانَهُنَّ بَلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ من النَّعَامِ، وهو بياضٌ قَدْ خالَطَتْهُ صُفْرَةٌ حَسَنَةٌ، و‏{‏مَّكْنُونٌ‏}‏ أي‏:‏ بالريش، وقال ابن عباس فيما حَكَى الطَبريُّ‏:‏ «الْبَيْضُ المَكْنُونُ» أَرَادَ به الجَوْهَرَ المَصُونَ، قال * ع *‏:‏ وهذا يَرُدُّهُ لَفْظُ الآيةِ، فلا يَصِحُّ عَنِ ابن عباس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هذا التَّساؤُلُ الذي بَيْنَ أهْلِ الجَنَّةِ هو تساؤُلُ رَاحَةٍ وَتَنَعُّمٍ؛ يَتَذَاكَرُونَ أمُورَهُمْ في الجَنَّةِ وأمْرَ الدنيا وحالَ الطَّاعَةِ والإيمَانِ فيها، ثم أخْبَرَ تعالى عَنْ قَوْلِ قائِلٍ منهم في قِصَّتِهِ، وهو مثالٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ قَرِينُ سَوْءٍ، فَيُعْطِي هَذَا المثالُ التَّحَفُّظَ مِنْ قُرَنَاءِ السوءِ، قال الثعلبيُّ‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ كان شَيْطَاناً، انتهى، وقال ابنُ عباس وغيره‏:‏ كان هذانِ منَ البَشَرِ؛ مُؤمِنٌ وكَافِرٌ، وقال فُرَاتُ بْنُ ثَعْلَبَةَ البَهْرَانِيُّ في قَصَصِ هَذَيْنِ‏:‏ إنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ بثمانيةِ آلاف دينارٍ، فكَانَ أحدُهُمَا مَشْغُولاً بِعِبَادةِ اللَّهِ، وكان الآخرُ كافراً مُقْبِلاً على مَالِهِ، فَحَلَّ الشَّرِكَةَ مع المؤمِنِ وَبقيَ وَحْدَه لِتَقْصِيرِ المؤمِنِ في التِّجَارَةِ، وجَعَلَ الكَافِرُ كُلَّمَا اشْتَرَى شَيْئاً من دَارٍ أو جَاريةٍ أو بستانٍ ونحوِهِ، عرضه عَلى المؤمِنِ وفَخَرَ عليه، فَيَمْضِي المؤمِنُ عندَ ذلكَ، وَيَتَصَدَّقُ بنحوِ ذلك؛ لِيَشْتَرِي بِه من اللَّهِ تعالى في الجَنَّةِ، فكانَ مِنْ أمرِهمَا في الآخِرَةِ ما تَضَمَّنَتْهُ هذه الآية، وحكى السُّهَيْلِيُّ أن هذين الرجلَيْنِ هما المذكورانِ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لَهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب‏}‏ الآية ‏[‏الكهف‏:‏ 32‏]‏ انتهى، و‏{‏مَدِينُونَ‏}‏ معناه‏:‏ مُجَازَوْنَ مُحَاسَبُونَ؛ قاله ابن عَبَّاس وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 61‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ‏(‏54‏)‏ فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏55‏)‏ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ‏(‏56‏)‏ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏57‏)‏ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏60‏)‏ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ‏}‏ الآية، في الكلامِ حَذْفٌ، تقديرُه‏:‏ فقالَ لِهذَا الرجلُ حاضِرُوهُ مِنَ الملائِكَةِ‏:‏ إنَّ قَرِينَكَ هذا في جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ فقال عند ذلك‏:‏ ‏{‏هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ‏}‏ يخَاطِبُ ب«أَنْتُم» الملائكةَ أو رفقاءَه في الجنةِ أو خَدَمَتَهُ؛ وَكُلَّ هذا حَكَى المَهْدَوِيُّ، وقَرَأ أبو عمرو في رواية حُسَيْنٍ «مُطْلِعُونَ» بسكون الطاء وفتح النون، وقرِئ شاذًّا «مُطْلِعُونِ» بسكون الطاء وكسر النون، قال ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏سَوَآءِ الجحيم‏}‏ وَسَطُه، فقال له المؤمِنُ عند ذلك‏:‏ ‏{‏تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ‏}‏ أي‏:‏ لَتُهْلِكُنِي بإغْوائِكَ، والرَّدَى‏:‏ الهلاكُ، وقولُ المؤمِنِ‏:‏ ‏{‏أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ يحتملُ أن تكونَ مخاطبةً لِرُفَقَائِهِ في الجَنَّةِ، لمَّا رأى مَا نَزَلَ بِقَرِينِهِ، ونَظَرَ إلى حالِه في الجنَّةِ وحالِ رُفَقَائِهِ؛ قَدَّرَ النعمةَ قَدْرَهَا، فَقَالَ لهم على جهة التوقيفِ على النِّعْمَةِ‏:‏ أفما نحن بميِّتين ولا معذَّبين، ويجيء على هذا التأويل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏العاملون‏}‏ مُتَّصِلاً بكَلاَمِهِ خِطَاباً لرفقائهِ، ويحتمل قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ‏}‏ أن تكونَ مخاطبةً لقرينِه؛ على جهة التوبيخ، كأنَّه يقول‏:‏ أين الذي كنتَ تقولُ من أنَّا نموتُ وَلَيْسَ بَعْدَ الموتِ عِقَابٌ ولا عَذَابٌ، ويكونُ قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏العاملون‏}‏ يحتمل أنْ يَكُونَ من خِطَابِ المُؤْمِنِ لقرينهِ؛ وإليه ذَهَبَ قتادة، ويحتملُ أنْ يَكُونَ من خِطَابِ اللَّه تعالى لمحمَّد عليه السلام وأُمَّتِه، ويُقَوِّي هذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون‏}‏ وهُوَ حَضٌّ عَلى العَمَلِ؛ والآخِرَةُ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 72‏]‏

‏{‏أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ‏(‏62‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ‏(‏63‏)‏ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ‏(‏64‏)‏ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ‏(‏65‏)‏ فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏66‏)‏ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏67‏)‏ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ‏(‏68‏)‏ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ‏(‏69‏)‏ فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏71‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

وقولُهُ تعالى‏:‏ ‏{‏أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم‏}‏ المرادُ بالآية‏:‏ تقريرُ قريشٍ والكفارِ، قال * ع *‏:‏ وفي بعض البلادِ الجَدْبَةِ المجاورةِ للصَّحَارَى شجرةٌ مُرَّةٌ مَسْمُومَةٌ لَهَا لَبَنٌ، إنْ مَسَّ جِسْمَ أَحَدٍ؛ تَوَرَّمَ وَمَاتَ مِنْهُ في أغلب الأمْرِ؛ تُسَمَّى شجَرَةَ الزَّقُّومِ، والتَّزَقُّمُ في كَلاَمِ العَرَب‏:‏ البَلْعُ عَلَى شِدَّةٍ وَجَهْدٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين‏}‏ قال قتادة ومجاهد والسُّدِّيُّ‏:‏ يريد أبا جهل ونظراءه، وقد تقدم بيانُ ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين‏}‏ اخْتَلَفَ في معناه؛ فقالت فرقة‏:‏ شَبَّهَ طَلْعَها بثَمَرِ شَجَرَةٍ مَعْرُوفَةٍ يقالُ لَها «رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ»، وهي بناحِيَةِ اليَمَنِ، يقال لها‏:‏ «الأَسْتَنُ»، وقالت فرقة‏:‏ شَبَّهَ برُؤُوسِ صِنْفٍ منَ الحيَّاتِ يُقَالُ لها «الشَّياطِين»، وهي ذواتُ أعْرَافٍ، وقالت فرقة‏:‏ شَبَّه بما اسْتَقَر في النُّفُوسِ مِنْ كَرَاهَةِ رؤوس الشياطين وقُبْحِهَا؛ وإنْ كانَتْ لاَ تُرَى؛ لأن الناسَ إذا وصفوا شَيْئاً بِغَايَةِ القُبْحِ قَالوا‏:‏ كأنَّه شَيْطَانٌ؛ ونَحوُ هذا قولُ امْرِئ القيس‏:‏

أَيَقْتُلُنِي وَالمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي *** وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ

فإنَّما شَبَّه بما استقر في النفوس من هيئتها، والشَّوْبُ‏:‏ المِزَاجُ والخَلْطُ؛ قاله ابن عباس وقتادة، والحميم‏:‏ السُّخْنُ جِدًّا مِن الماء؛ ونحوِهِ، فيريدُ به ههنا شَرَابَهُمْ الذي هو طِينةُ الخَبَالِ صَدِيدُهُمْ وَمَا يَنْماعُ مِنْهُمْ؛ هذا قولُ جماعةٍ من المفسرين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَاءَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةُ، تمثيلٌ لقريشٍ و‏{‏يُهْرَعُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يُسْرِعُونَ؛ قاله قتادة وغيره، وهذا تَكَسُّبُهُمْ للكفرِ وحِرْصُهم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 76‏]‏

‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏74‏)‏ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ‏(‏75‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين‏}‏ يَقْتَضِي الإخبارَ بأنه عذَّبَهُمْ؛ ولذلك حَسُنَ الاستثناءُ في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ ونِداءُ نُوحٍ تَضَمَّنَ أشْياءَ؛ كطَلبِ النصرة والدعاءِ على قومِه وغيرِ ذلك، قال أبو حيان‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَنِعْمَ المجيبون‏}‏ جَوابُ قَسَمٍ كقوله‏:‏ ‏[‏من الطويل‏]‏

يَمِيناً لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجِدْتُما ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

والمخصوصُ بالمَدْحِ محذوفٌ، أي‏:‏ فَلنِعْمَ المجيبُونَ نَحْنُ، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 82‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ‏(‏77‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏78‏)‏ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ‏(‏79‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏81‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏ قال ابن عبَّاسٍ وقتادة‏:‏ أهْلُ الأرضِ كلُّهُمْ من ذريةِ نوحٍ، وقالت فرقة‏:‏ إنَّ اللَّه تعالى أَبْقَى ذريةَ نُوحٍ وَمَدَّ نَسْلَه، وليسَ الأمْرُ بأَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا انْحَصَرُوا إلى نَسْلِهِ، بَلْ في الأُمَمِ مَنْ لاَ يَرْجِعُ إليْه، والأول أشْهَرُ عَنْ عُلَماءِ الأمَّة، وقالوا‏:‏ نوحٌ هو آدم الأصغر، قال السُّهَيْلِيُّ‏:‏ ذُكِرَ عَنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنه قال في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏‏:‏ ‏[‏إنَّهم‏]‏ سامٌ وحَامٌ ويافثُ، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين‏}‏ معناهُ‏:‏ ثناءً حسَناً جَميلاً باقياً آخِرَ الدَّهْرِ؛ قاله ابن عباس وغيره، و‏{‏سلام‏}‏ رفعٌ بالابتداء مُسْتَأنف، سَلَّمَ اللَّهُ به عليه لِيَقْتَدِيَ بذلك البَشَرُ‏.‏ * ت *‏:‏ قال أبو عُمَرَ في «التمهيد»‏:‏ قال سعيد يعني‏:‏ ابن عبد الرحمن الجُمَحِيَّ‏:‏ بلَغَني أنه مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي‏:‏ ‏{‏سلام على نُوحٍ فِى العالمين‏}‏ لَمْ تَلْدَغْهُ عَقْرَبٌ، ذَكَرَ هذا عندَ قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم للأسْلَمِيِّ الذي لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ‏:‏ ‏"‏ أمَا لَوْ أَنَّكَ قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ‏:‏ أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ‏"‏، قَالَ أبُو عُمَرَ‏:‏ وَرَوَى ‏[‏ابنُ وَهْبٍ‏]‏ هذَا الحديثَ عَنْ مالكٍ يَعْني‏:‏ حديثَ‏:‏ ‏"‏ أعوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ ‏"‏ بإسْنَادِهِ مِثْلَ ما في المُوطَّإ، إلا أنَّه قال في آخره‏:‏ ‏"‏ لَمْ يَضُرَّكَ شَيْءٌ ‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا الأخرين‏}‏ قال جماعة من العلماء‏:‏ إنَّ الغَرَقَ عَمَّ جميعَ النَّاسِ، وأسْنَدُوا في ذلك أحَادِيثَ، قَالُوا‏:‏ وَلَمْ يَكُنِ الناسُ حينئذٍ بهذهِ الكَثْرَةِ؛ لأنَّ عَهْدَ آدم كانَ قريباً، وكانتْ دَعْوَةُ نُوحٍ ونُبُوَّتُهُ قَدْ بَلَغَتْ جميعَهم، لِطُولِ المدَّةِ واللَّبْثِ فِيهم، فَتَمادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَقْبَلُوا مَا دَعَاهُمْ إليه من عبادةِ الرحمن؛ فلذلكَ أغْرَقَ اللَّهُ جميعَهُمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 87‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ‏(‏83‏)‏ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏84‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ‏(‏85‏)‏ أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ‏(‏86‏)‏ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ‏}‏ قال ابنُ عبَّاسٍ وغيره‏:‏ الضميرُ عائِدٌ على نوحٍ، والمعنى‏:‏ في الدينِ والتَّوْحيدِ، وقَال الطبريُّ وغيره عن الفَرَّاءِ‏:‏ الضميرُ عائِدٌ عَلى محمدٍ، والإشَارَةُ إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَئِفْكاً‏}‏ استفهامٌ بمعنى التقرير، أي‏:‏ أَكَذِباً ومُحَالاً، ‏{‏ءَالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا ظَنُّكُم‏}‏ تَوْبِيخٌ وتحذيرٌ وتَوَعُّدٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 90‏]‏

‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ‏(‏88‏)‏ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ‏(‏89‏)‏ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم‏}‏ رُوِيَ أنَّ قَوْمَهُ كانَ لهم عِيدٌ يَخْرُجُونَ إليه فَدَعَوْا إبراهيمَ عليه السلام إلى الخروجِ مَعَهُمْ، فَنَظَرَ حينَئِذٍ، واعتَذَرَ بِالسُّقْمِ، وأرادَ البَقَاءَ لِيُخَالِفَهُمْ إلى الأصْنَامِ، ورُوِيَ أنَّ عِلْمَ النُّجُومِ كانَ عندَهم مَنْظُوراً فِيه مُسْتَعْمَلاً؛ فأوْهَمَهُم هو من تلكَ الجهة، قالت فرقة‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّى سَقِيمٌ‏}‏ مِنَ المعَارِيضِ الجَائِزَةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 102‏]‏

‏{‏فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏91‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ‏(‏92‏)‏ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ‏(‏93‏)‏ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ‏(‏94‏)‏ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ‏(‏95‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ‏(‏97‏)‏ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏98‏)‏ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَاغَ إلى ءَالِهَتِهِمْ‏}‏ «راغ» معناه‏:‏ مَالَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَ تَأْكُلُونَ‏}‏ هو على جِهَةِ الاسْتِهْزَاءِ بِعَبَدَةِ تلكَ الأصْنَامِ، ثم مَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إلَى ضَرْبِ تلك الأصْنامِ بِفَأْسٍ حَتَّى جَعَلَها جُذَاذاً، واخْتُلِفَ في معنى قوله‏:‏ ‏{‏باليمين‏}‏ فقال ابن عَبَّاس‏:‏ أراد يمنى يَدَيْهِ، وَقِيلَ‏:‏ أرادَ بِقُوَّتِه؛ لأنَّه كانَ يَجْمَعُ يَدَيْهِ مَعاً بِالفَأْسِ، وقيل‏:‏ أراد باليمينِ، القَسَمَ في قوله‏:‏ ‏{‏وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 57‏]‏ والضميرُ في «أقبلوا» لكُفَّارِ قَوْمِهِ و‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ معناه‏:‏ يُسْرَعُونَ، واختلف المتأَوِّلُونَ في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ فَمَذْهَبُ جماعةٍ من المفسرين‏:‏ أن «ما» مصدرية، والمعنى‏:‏ أنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وأَعْمَالَكُمْ، وهذه الآيةُ عندهُمْ قَاعِدَةٌ في خَلْقِ اللَّهِ تعالى أفْعَالَ العِبَادِ؛ وهو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وقالت فرقة‏:‏ «ما» بمعنى‏:‏ الّذِي، «والبنيان» قيل‏:‏ كانَ في مَوْضِع إيقَادِ النَّارِ، وقيل‏:‏ بَلْ كَان لِلْمَنْجَنِيقِ الذي رُمِي عَنْه، واللَّه أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبِّى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قالتْ فرقة‏:‏ كان قولُهُ هذا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ، وأنَّه أَشَارَ بِذَهَابِهِ إلى هِجْرَتِهِ مِنْ ‏[‏أَرْضِ‏]‏ بَابِلَ؛ حَيْثُ كَانَتْ مملكةُ نُمْرُودَ، فَخَرَجَ إلى الشَّامِ، وقالت فِرْقَةٌ‏:‏ قال هذه المقالةَ قَبْلَ أنْ يُطْرَحَ فِي النَّارِ؛ وإنما أراد لِقَاءَ اللَّهِ؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّ النَّارَ سَيَمُوتُ فِيها، وقال‏:‏ ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ أي‏:‏ إلى الجَنَّةِ؛ نَحَا إلى هذَا المعنى قتادةُ، قال * ع *‏:‏ وللعارفينَ بهذَا الذَّهَابِ تَمَسُّكٌ واحْتِجَاجٌ في الصَّفَاءِ، وهُو مَحْمَلٌ حَسَنٌ في ‏{‏إِنِّى ذَاهِبٌ‏}‏ وحْدَهُ، والتأويلُ الأولُ أظْهِرَ في نَمَطِ الآيةِ، بما يأتي بَعْدُ؛ لأنَّ الهدايةَ مَعَهُ تَتَرَتَّبُ، والدُّعَاءُ في الوَلَدِ كذلك، ولاَ يَصِحُّ مَعَ ذَهَابِ المَوْتِ، وباقي الآيةِ تَقَدَّمَ قَصَصُهَا، وأَنَّ الراجحَ أنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسْمَاعِيلُ، وذَكَرَ الطبريُّ أنَّ ابن عباس قال‏:‏ الذبيحُ، إِسماعيل، وتَزْعُمُ اليهودُ أنَّهُ إسْحَاقُ، وكَذَبَتِ اليهُودُ، وذُكِرَ أيضاً أنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيزِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَجُلاً يهوديًّا كانَ أسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه، فَقَال‏:‏ الذَّبِيحُ هُوَ إسْمَاعِيلُ، وإن اليهودَ لَتَعْلَمُ ذلكَ، ولكنهمْ يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ‏:‏ أنْ تَكُونَ هذه الآيَاتُ وَالْفَضْلُ وَاللَّهِ في أَبِيكُمْ، والسَّعْيُ في هذه الآيةِ‏:‏ العَمَلُ والعبادةُ والمَعُونَةُ، قاله ابن عَبَّاسٍ وغيرُهُ، وقال قتادةُ‏:‏ السَعْيُ على القَدَمِ يريدُ سَعْيَاً مُتَمَكِّنِاً، وهذا في المعنى نَحْوُ الأوَّلِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّى أرى فِى المنام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ رأى ذلِكَ بِعَيْنِهِ؛ ورُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ، وعُيِّنَ لَهُ وقتُ الامْتِثَالِ، ويُحْتَمَلُ أنَّه أُمِرَ في نومِه بِذَبْحِهِ، فَعبَّر عَنْ ذلكَ بقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّى أرى‏}‏ أي‏:‏ أرى ما يوجبُ أنْ أذْبَحَكَ، قال ابن العَرَبِيِّ في «أحكامه»‏:‏ واعلم أن رُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ فَمَا أُلْقِيَ إليهم، ونَفَثَ بهِ المَلَكُ في رُوعِهِمْ، وضَرَبَ المثَلَ لَه عَلَيْهِم فَهُو حَقٌّ؛ ولذلكَ قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أنَّهُ يُنْزلُ فِيَّ قُرْآنٌ يتلى، ولكني رَجَوْتُ أنْ يرى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا حقيقةَ الرُّؤيا، وأن البَارِيَ تعالى يَضْرِبُهَا مثَلاً للناسِ، فمنها أسماءٌ وكُنًى، ومنها رُؤْيَا تَخْرُج بِصِفَتِهَا، ومنها رُؤيا تَخْرُجُ بتأويلٍ، وهُوَ كُنْيَتُهَا‏.‏ ولما اسْتَسْلَمَ إبراهيمُ وولدُه إسماعيلُ عليهما السلام لقضاءِ اللَّهِ، أُعْطِيَ إبراهيمُ ذَبِيحاً فِدَاءً، وقيل له‏:‏ هذا فداءُ وَلَدِكَ، فامْتَثِلْ فِيه مَا رَأَيْتَ؛ فإنَّه حقيقةُ مَا خاطبناك فيه، وهُو كِنَايَةٌ لاَ اسم، وجَعَلَهُ مُصَدِّقاً للرؤيا بمبادَرةِ الامْتِثَال، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 124‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏108‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏109‏)‏ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏110‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏111‏)‏ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏115‏)‏ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏116‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏119‏)‏ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏121‏)‏ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏122‏)‏ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا‏}‏ أي‏:‏ أسلما أنفسهمَا، واسْتَسْلَمَا للَّه عز وجل، وقَرَأ ابن عبَّاس وجماعة‏:‏ «سَلَّمَا»، والمعنى فَوَّضَا إليه في قضائه وقَدَرِهِ سبحانه، فأسْلَم إبراهيمُ ابْنَهُ، وأسْلَمَ الابْنُ نَفْسَهُ، قال بعْضُ البَصْرِيين‏:‏ جوابُ «لما» محذوفٌ تقديره‏:‏ فلما أسْلَمَا وَتَلَّهُ للجبينِ، أُجْزِلَ أجْرُهُما، ونحوُ هذا مِمَّا يَقْتَضِيهِ المعنى، ‏{‏وَتَلَّهُ‏}‏ معناه‏:‏ وَضَعَه بقوَّةٍ ومنْه الحديثُ في القِدْحِ‏:‏ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في يده، أي‏:‏ وضعه بقوَّة، و‏{‏لِلْجَبِينِ‏}‏ معناه‏:‏ لتلك الجهةِ وعليها، كما يقولون في المثلِ‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** وخَرَّ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ

وكما تقول‏:‏ سَقَطَ لِشِقِّهِ الأيْسَرِ، والجَبِينانِ‏:‏ ما اكْتَنَفَ الجَبْهَةَ مِنْ ههنا، ومن ههنا، و«أَنْ» من قوله‏:‏ ‏{‏أَن ياإبراهيم‏}‏ مُفَسِّرَةٌ لاَ مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ، و‏{‏صَدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ يحتملُ أنْ يريدَ بقَلْبِكَ أو بِعَمَلِكَ، و«الرؤيا» اسمٌ لِمَا يرى مِن قِبَلِ اللَّهِ تعالى، والمَنَامُ والحُلْمُ‏:‏ اسمٌ لما يرى منْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ؛ ومنه الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ ‏"‏، و‏{‏البلاء‏}‏‏:‏ الاخْتِبَارُ، والذَّبْحُ العظيمُ في قول الجمهور‏:‏ كَبْشٌ أبْيَضُ أعْيَنُ، وَجَدَهُ وَرَاءَهُ مَرْبُوطاً بسَمُرَةٍ، وأَهْلُ السُّنَّةِ على أَنَّ هذه الْقِصَّةَ نُسِخَ فيها العَزْمُ على الْفِعْلِ؛ خلافاً للمعتزلة، قال أحمد بن نَصْرٍ الداوودي‏:‏ وإنْ نَسَخَ اللَّهُ آيةً قَبْلَ العَمَلِ بِهَا؛ فإنَّما يَنْسَخُها بَعْدَ اعْتِقَادِ قَبُولِها وهُوَ عَمَلٌ انتهى من تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ قال * ع *‏:‏ ولا خلافَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ أَمَرَّ الشَّفْرَةَ على حَلْقِ ابنه فَلَمْ تَقْطَعْ، والجمهورُ أَنَّ أمْرَ الذَّبْحِ كانَ بِمِنًى، وقال الشَّعْبِيُّ‏:‏ رَأَيْتُ قَرْنَيْ كَبْشِ إبْرَاهِيمَ مُعَلَّقَتَيْنِ في الكَعْبَةِ، وروى عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ‏:‏ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يَا فَاطِمَةُ، قُومِي لاٌّضْحِيَتِكِ، فاشهديها؛ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ، وَقُولِي‏:‏ إنَّ صَلاَتِي ونُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ‏"‏ قال عِمْرَانُ‏:‏ قلت‏:‏ يا رسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكَ وَلأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً، أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً‏؟‏ قَال‏:‏ «لاَ، بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» رواه الحاكم في «المستدرك» انتهى من «السِّلاَح»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظالم لِّنَفْسِهِ‏}‏ توعُّد لمنْ كَفَرَ من اليهودِ بمحمَّد عليه السلام، و‏{‏الكتاب المستبين‏}‏‏:‏ هو التوراةُ، قال قتادة وابن مَسْعُود‏:‏ إلْيَاسُ‏:‏ هو إدريسُ عليه السلام، وقالت فرقة‏:‏ هو مِنْ وَلَدِ هَارُونَ، وقرأ نافِعُ وابن عامِر‏:‏ «على آلِ يَاسِينَ»، وقرأ الباقون‏:‏ «على إلْيَاسِينَ» بألفٍ مكسورةٍ ولامٍ ساكنةٍ، فَوُجِّهَتِ الأولى؛ على أنها بمعنى‏:‏ «أهْل»، و«ياسِينُ»‏:‏ اسمُ لإلياسَ، وقيل‏:‏ هو اسم لمحمَّد عليه السلام، ووُجِّهَتِ الثانيةُ على أَنَّها جَمْعُ «إلْيَاسِيٍّ»، وقرأ ابن مسعود والأعمش‏:‏ «وإنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ، وَسَلاَمٌ على إدْرِيسِينَ»، قال السُّهيليُّ‏:‏ قال ابن جِنِّيْ‏:‏ العربُ تتلاعبُ بالأسماءِ الأعجميةِ تلاعباً؛ ف«ياسين»، و«إلياسُ» و«اليَاسِينُ» شيءٌ واحدٌ، انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ وحكى الثعلبيُّ هنا حكايةً عَنْ عَبْدِ العزيزِ بْنِ أبي رواد، عن رجلٍ لَقِي إلياسَ في أيَّام مَرْوانَ بن الحَكَمِ، وأخبَرَهُ بعَدَدِ الأبْدَالِ وعَن الخَضِرِ في حكايةٍ طويلةٍ لا ينبغي إنكارُ مثلها؛ فأولياءُ اللَّهِ يُكاشَفُونَ بِعَجَائِبَ، فلا يُحْرَمُ الإنْسَانُ التَّصْدِيقَ بِهَا، جعلنَا اللَّه مِنْ زُمْرَةِ أوليائه، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 138‏]‏

‏{‏أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ‏(‏125‏)‏ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏126‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏128‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏129‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ‏(‏130‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏131‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏134‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏135‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏136‏)‏ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ‏(‏137‏)‏ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَتَدْعُونَ بَعْلاً‏}‏ معناه‏:‏ أتعبُدُون، قَال الحسن والضَّحَّاك وابن زيد‏:‏ بَعْلٌ‏:‏ اسمُ صَنَمٍ‏:‏ كانَ لَهُمْ، ويقال له‏:‏ بَعْلَبَك، وذكر ابنُ إسحاقٍ عن فرقة‏:‏ أَنّ بَعْلاً اسْمُ امرأةٍ كَانَتْ أَتَتْهُمْ بضلالةٍ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم‏:‏ «اللَّهَ ربَّكم وربَّ آبائكم» كلُّ ذلك بالنَّصبِ بَدَلاً مِن قوله‏:‏ ‏{‏أَحْسَنَ الخالقين‏}‏ وقرأ الباقونَ كلَّ ذلكَ بالرفعِ على القَطْعِ والاستئناف، والضميرُ في ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ عائِدٌ على قومِ إلياسَ، و‏{‏لَمُحْضَرُونَ‏}‏ معناه‏:‏ مَجْمُوعُونَ لعذابِ اللَّهِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ‏}‏ مخاطبةٌ لقريشٍ، ثم وبَّخَهُمْ بقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 142‏]‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية هو يونُسُ بن مَتَّى صلى الله عليه وسلم، وهُو مِنْ بنِي إسرائيل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ أَبَقَ‏}‏ الآية، وذلك أنه لما أخْبَرَ قَوْمَهُ بِوقْتِ مجيءِ العذَابِ، وغَابَ عَنْهُمْ، ثم إنَّ قَوْمَهُ لَما رَأَوْا مَخَايِلَ العَذَابِ أنابُوا إلى اللَّهِ، فَقبلَ تَوْبَتَهُمْ، فلَمّا مَضَى وقتُ العَذَابِ، وَلَمْ يُصِبْهُمْ، قال يونسُ‏:‏ لا أرْجِعُ إليهمْ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، ورُوِي أنَّه كَانَ في سيرَتِهِمْ أَنْ يَقْتُلُوا الكَذَّابَ فَأَبقَ إلى الْفُلْكِ، أيْ‏:‏ أَرَادَ الهُرُوبَ، ودَخَلَ في البَحْرِ، وعبَّر عَنْ هُرُوبِهِ بالإباقِ مِنْ حَيْثُ ‏[‏إنَّه‏]‏ فَرَّ عَنْ غَيْرِ إذْنِ مولاهُ، فَرُوِيَ عَنِ ابنِ مسعودٍ؛ أنه لمَّا حَصَلَ في السفينةِ، وأبْعَدَتْ في البحرِ، رَكَدَتْ وَلَمْ تَجْرِ؛ وغيرُها من السُّفُن يجري يميناً وشِمالاً، فقال أهلها إنَّ فينا لصَاحبَ ذَنْبٍ وَبِهِ يَحْبِسُنَا اللَّهُ تعالى، فقالُوا‏:‏ لِنَقْتَرِعْ، فأَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْماً، واقترعوا، فَوَقَعَتِ القُرْعَةُ عَلى يونُسَ، ثَلاَثَ مراتٍ، فَطَرَحَ حينَئِذٍ نَفْسَهُ، والْتَقَمَهُ الحُوتُ، ورُوي أَنَّ اللَّهَ تعالى أَوْحَى إلى الحوتِ أَني لَمْ أَجْعَلْ يُونُسَ لَكَ رِزْقاً، وإنما جَعَلْتُ بَطْنَكَ لَه حِرْزاً وسِجْناً، فهذا معنى ‏{‏فساهم‏}‏‏.‏

والمُدْحَضُ‏:‏ المغلوبُ في مُحَاجَّةٍ أوْ مَسَاهَمَةٍ، وعبادةُ ابنِ العَرَبِيِّ في «الأحكام»‏:‏ «وأوْحَى اللَّه تعالى إلى الحُوتِ‏:‏ إنا لَمْ نَجْعَلْ يونُسَ لَكَ رِزْقاً، وإنما جعلنا بَطْنَكَ له مَسْجِداً» الحديثَ، انتهى، ولَفْظَةُ «مَسْجِدٍ»‏:‏ أَحْسَنُ من السِّجْنِ، فَرَحِمَ اللَّهُ عَبداً لَزِمَ الأَدَبَ لا سِيَّمَا مَعَ أنْبِيَائِهِ وأَصْفِيائِه، وال«مُلِيمُ»‏:‏ الّذِي أتَى مَا يُلاَمُ عَلَيه؛ وبذلك فَسَّر مجاهدٌ وابنُ زيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 144‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏ قيل‏:‏ المرادُ‏:‏ القائلينَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ في بَطْنِ الحُوتِ؛ قاله ابن جُرَيْجٍ، وقالتْ فِرْقَةٌ‏:‏ بَلِ التَّسْبِيحُ هنا الصَّلاَةُ، قال ابن عبَّاس وغَيْره‏:‏ صَلاَتُهُ في وَقْتِ الرِّخَاءِ نَفَعَتْهُ في وَقْتِ الشِّدَّةِ؛ وقال هذا جماعةٌ من العلماءِ، وقال الضَّحَّاك بن قَيْسٍ على مِنْبَرِهِ‏:‏ اذْكُرُوا اللَّه؛ عباد اللَّه؛ في الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِّدَّةِ، إن يُونَسَ كانَ عَبْداً للَّهِ ذَاكِراً له، فَلَمَّا أصابَتْهُ الشِّدَّةُ نَفَعُه ذلك، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏، وإن فرعونَ كانَ طَاغِياً بَاغِياً فَلَمَّا أدْرَكَهُ الغَرَقُ، قَال‏:‏ آمَنْتُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذلكَ، فاذكروا اللَّهَ في الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِّدَّةِ، وقال ابن جُبَيْرٍ‏:‏ الإشارَةُ بقولهِ‏:‏ ‏{‏مِنَ المسبحين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنِّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 146‏]‏

‏{‏فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فنبذناه بالعراء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، «العَرَاءُ»‏:‏ الأرْضُ الفيحاءُ التي لاَ شَجَرَ فيها ولاَ مَعْلَمَ، قال ابن عباس وغيره قي قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ سَقِيمٌ‏}‏‏:‏ إنَّه كالطفلِ المَنْفُوسِ، بُضْعَةُ لَحْمٍ، وقال بعضهم‏:‏ كاللَّحْمِ النَّيْءِ، إلاَّ أنَّه لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، فأنْعَشَهُ اللَّهُ في ظِلِّ اليَقْطِينَةِ بِلَبَنِ أُرْوِيَّةٍ ‏[‏كَانَتْ تُغَادِيه وتُراوِحُهُ، وقيل‏:‏ بلْ كَانَ يتغذى من اليَقْطِينَةِ، ويجدُ منها ألوانَ الطَّعَامِ وأنواعَ‏]‏ شهواتِه، قال ابن عبَّاس وأبو هريرة وعمرو بن مَيمُونٍ‏:‏ اليقطين‏:‏ القَرْعُ خَاصَّة، وقيل، كُلُّ مَا لاَ يَقُومُ على ساقٍ كَالبَقُولِ والقَرْعِ والبطِّيخِ ونحوِه مما يَمُوتُ؛ من عَامِهِ، ومشهورُ اللَّغَةِ أنَّ اليقطينَ هو القَرْعُ، فَنَبَتَ لَحْمُ يونُسَ عليه السلام وصَحَّ، وحَسُنَ لَوْنُهُ، لأنَّ وَرَقَ القَرْعِ أنْفَعُ شيءٍ لِمَنْ تَسَلَّخَ جِلْدُهُ، وهُوَ يَجْمَعُ خِصَالاً حميدةً، بَرْدُ الظِّلِّ ‏[‏ولِينُ‏]‏ المَلْمَسِ، وأنَّ الذُّبَابَ لاَ يقربُها، حكى النَّقَّاشُ أن مَاءَ وَرَقِ القَرْعِ إذا رُشَّ به مَكانٌ، لَمْ يَقْرَبْهُ ذُبَابٌ، ورُوِيَ أنَّهُ كان يوماً نائِماً، فأيْبَسَ اللَّهُ تِلْكَ اليَقْطِينَةَ، وقيل‏:‏ بَعَث عَلَيها الأَرَضَةَ فَقَطَعَتْ وَرَقَها، فانْتَبَهَ يُونُسُ لِحَرِّ الشَّمْسِ، فَعَزَّ عَلَيْه شَأنُها، وجَزِعَ لَه؛ فأوحَى اللَّهُ إلَيْهِ‏:‏ يا يونُسُ، جَزِعْتَ لِيُبْسِ الْيَقْطِينَةِ، وَلَمْ تَجْزَعَ لإهْلاكِ مِائَةِ ألفٍ أو يَزِيدُونَ تَابُوا فَتُبْتُ عَلَيْهِمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏147- 157‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏ فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

ى‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ قال الجمهور‏:‏ إنَّ هذه الرسالةَ هي رِسالتهُ الأولى ذكرَها اللَّهُ في آخر القَصَصِ، وقال قَتَادَةُ وغيره‏:‏ هذه رسالةٌ أُخْرَى بَعْدَ أنْ نُبِذَ بالعراء، وهي إلى أهل «نينوى» من ناحِية المَوْصِلِ، وقرأ الجمهور‏:‏ «أو يزيدون» فقال ابن عباس‏:‏ «أو» بمعنى «بل» ورُوِي عَنْه أنه قرأ‏:‏ «بل يزيدون» وقالت فرقة‏:‏ «أو» هنا بمعنى الواو، وقرأ جعفر بن محمد‏:‏ «ويزيدون» وقال المُبَرِّدُ، وكثيرٌ مِنَ البَصْرِيِّين‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ المعنى‏:‏ على نَظَرِ البَشَرِ وحَزْرِهم، أي‏:‏ من رآهم قال‏:‏ مائة ألف أو يزيدون، وروى أُبَيُّ بنِ كَعْبٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كانوا مائةً وعشرينَ ألفاً‏.‏ * ت *‏:‏ وعبارة أحمد بن نَصْرٍ الدَّاوودِيُّ‏:‏ وعن أبي بن كَعْب قال‏:‏ سألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين‏:‏ ‏{‏الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ قال يزيدون عشرين ألفاً، وأحسبه قال‏:‏ الحسنى‏:‏ الجنة، «والزيادة» النظرُ إلى وجهِ اللَّه عز وجل، انتهى، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَئَامَنُواْ فمتعناهم إلى حِينٍ‏}‏ مثالٌ لقريشٍ إنْ آمنوا، ومنْ هنا حَسُنَ انتقالُ القَوْلِ والمحاوَرَةِ إلَيْهِم بقوله‏:‏ ‏{‏فاستفتهم‏}‏؛ فإنما يعود على ضميرِهم، على ما في المعنى من ذِكْرِهِمْ، والاستفتاءُ‏:‏ السؤال؛ وهو هنا بمعنى التَّقريعِ والتَّوْبيخِ في جعلهمُ البَنَاتِ للَّه، تعالى اللَّهُ عَنْ قولِهمْ، ثم أخبر ‏[‏اللَّهُ‏]‏ تعالى عن فرقةٍ منهم بلغَ بِها الإفْكُ والكَذِبُ إلى أَنْ قالتْ‏:‏ ولدَ اللَّهُ الملائكةَ؛ لأَنَّه نَكَحَ في سَرَوَاتِ الجِنِّ، تعالَى اللَّهُ عن قولهِم، وهذه فرقةٌ، مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فيما رُوِيَ، وقرأ الجمهور‏:‏ «أَصْطَفَى البَنَاتِ» بهمزةِ الاسْتفهامِ عَلَى جهةِ التَّقْرِيعِ والتوبيخِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 160‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً‏}‏ الجِنَّةُ هنا‏:‏ قيل‏:‏ همُ الملائِكَةُ‏:‏ لأنها مُسْتَجِنَّةٌ، أي‏:‏ مُسْتَتِرَةٌ، وقيل‏:‏ الجِنَّةُ همُ الشياطينُ، والضميرُ في ‏{‏وَجَعَلُواْ‏}‏ لفِرْقَةٍ من كفارِ قريشٍ والعَرَبِ، ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ سَتَحْضُرُ أَمْرَ اللَّهِ وثوابَه وعقابَه، ثم نَزَّهَ تعالى نفسَه عما يصِفُهُ الكفرةُ، ومِنْ هَذا استثنى عبادَه المُخْلَصِينَ؛ لأنّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ العُلاَ، وقالت فرقة‏:‏ اسْتَثْنَاهُمْ من قولِه‏:‏ ‏{‏لَمُحْضَرُونَ‏}‏ وعبارةُ الثعلبي‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة‏}‏ أي‏:‏ الملائكة أنَّ قائِلي هذه المقالةِ مِنَ الكفرةِ ‏{‏لَمُحْضَرُونَ‏}‏ في النَّارِ، وقيل للحسابِ، والأولُ أوْلَى لأنَّ الإحْضَارَ متَى جَاء في هذه الصُّورة عُنِيَ بهِ العذابُ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ فإنَّهُمْ ناجُونَ مِنَ النَّار، انتهى، وفي البخاريِّ ‏{‏لَمُحْضَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ سيُحْضَرُونَ للحِسَابِ، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 173‏]‏

‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ بمعنى‏:‏ قل لهم يا محمد، إنَّكم وأصنَامَكم مَا أَنْتُم بمضلِّينَ أَحَداً بسبَبِها وَعَلْيهَا إلاَّ مَنْ قَدْ سَبَقَ عليه القضاءُ؛ فإنَّه يَصْلَى الجَحِيمَ في الآخرةِ ولَيْسَ لَكُمْ إضْلالُ مَنْ هَدَى اللَّهُ تعالى، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ بمعنى‏:‏ «به» والفَاتِنُ‏:‏ المُضِلُّ في هذا الموضعِ؛ وكذلك فسَّره ابن عَباس وغيره، وحذفت اليَاءُ مِنْ ‏{‏صَالِ‏}‏ للإضَافةِ‏.‏

ثم حكى سبحانه قولَ الملائِكَةِ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏؛ وهذا يؤيِّدُ أَن الجِنَّةَ أرادَ بِها الملائِكةَ، وتقديرُ الكلامَ وما منا مَلَكٌ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ- رضي اللَّه عنها- عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَنَّ السَّمَاءَ مَا فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ وَاقِفٌ يُصَلِّي ‏"‏، وَعَنِ ابنِ مَسْعُودٍ وغَيرِه نَحْوُه‏.‏

و ‏{‏الصَّافُّونَ‏}‏ معناه‏:‏ الواقِفُونَ صفوفاً، و‏{‏المسبحون‏}‏، يحتملُ أن يرِيدَ بِه الصَّلاَة، ويحتملُ أنْ يريدَ قَولَ‏:‏ سبحَان اللَّهِ، قال الزَّهْرَاوِيُّ‏:‏ قيل‏:‏ إن المسْلِمِينَ إنما اصْطَفُّوا في الصلاةِ؛ مُذْ نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ، ولا يصطفُّ أحَدٌ من أهلِ المِلَلِ غَيْرُ المسلِمينَ، ثمَّ ذكرَ تعالى مَقَالَةَ بَعْضِ الكفارِ، قال قتادةُ وغيرُه‏:‏ فإنهم قَبل نبُوَّةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا‏:‏ لو كَانَ لَنَا كتابٌ أو جاءَنا رسولٌ، لَكُنا عِبَادَ اللَّهِ المخْلَصِينَ، فلما جَاءهم محمَّدٌ كَفرُوا به، فَسَوْفَ يَعْلَمُون، وهذا وَعِيدٌ مَحْضٌ، ثم آنَسَ تعالى نبيَّه وأولياءَه بأنَّ القَضَاء قد سَبَق، والكلمةُ قَدْ حَقَّتْ بأنَّ رُسُلَهُ سبحانه هم المنصُورُونَ، على من نَاوَأَهُمْ، وجُنْدُ اللَّهِ همُ الغزاةُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 182‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ أمْرٌ لنبيِّهِ بالمُوَادَعَةِ، وَوَعْدٌ جَمِيلٌ، و‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ قيل هو يومُ بَدْرٍ، وقِيل‏:‏ يومُ القيامةِ‏.‏

وقولهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ وَعْدٌ للنَّبي صلى الله عليه وسلم وَوَعِيدٌ لهُمْ، ثم وبَّخهم على استعجالِ العذَابِ ‏{‏فَإِذَا نَزَلَ‏}‏ أي‏:‏ العذابُ، ‏{‏بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ المنذرين‏}‏ والساحةُ الفِنَاء، وسُوءُ الصباح‏:‏ أيضاً مستعملٌ في وُرُودِ الغَارَاتِ، قلْتُ‏:‏ ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَشْرَفَ على خَيْبَرَ‏:‏ ‏"‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ ‏"‏ انتهى، وقَرَأَ ابن مسعود‏:‏ «فَبِئْسَ صَبَاحٌ»، والعزة في قولهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ العزة‏}‏ هي العزة المَخْلُوقَةُ الكائِنَةُ للأنبياءِ والمؤمِنينَ؛ وكذلك قال الفقهاءُ مِنْ أجْلِ أنَّها مَرْبُوبَةٌ؛ قال محمدُ بن سُحْنُونَ وغيره‏:‏ مَنْ حَلَفَ بعزَّةِ اللَّهِ، فَإنْ كَانَ أرادَ صِفَتَهُ الذَّاتِيَّةَ، فَهِي يَمينٌ، وإنْ كَانَ أَرَادَ عِزَّتَهُ الَّتِي خَلَقَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهي الَّتِي في قَوْلِه‏:‏ ‏{‏رَبِّ العزة‏}‏ فَلَيْسَتْ بَيَمِينٍ، ورُوِيَ عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال‏:‏ ‏"‏ إذا سَلَّمْتُمْ عَليّ، فَسَلِّمُوا عَلَى المُرْسَلِينَ؛ فإنَّما أَنَا أحَدُهُمْ ‏"‏ صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَعَلَى آله وعلى جميع النبيِّين وسلَّم‏.‏